الأحد، 12 يناير 2014

لا أحد يقدر عليه - قصة قصيرة

قصة قصيرة
كانت الساعة تقترب من العاشرة صباحا عندما أخذت طريقى إلى مطحن البن لأشترى مخزونا جديدا بعد أن قارب رصيد البن عندى على النفاذ , ولأننى عادة ماأثق فى قدماى وقدرتهما الفائقة على معرفة الطريق ومنحنياته وعوائقه , وبراعتهما فى إجتيازه , فقد إنشغلت عن الطريق ومارست عادتى المتأصلة فى التحاور مع نفسى فيما أواجهه من مشكلات والتى غالبا ماتستعصى على الحل وتنتهى بإتهام منى إلى عقلى بالغباء لعجزه عن إلهامى بحلول ترضينى , وغالبا مايجعلنى هذا الإنشغال بالحوار أكاد لاأرى أحدا أو أرى شيئا مما حولى إلا إذا قررت عيناى بالتعاون مع أذناى أن هناك مايستحق الإنتباه إليه , فأستجيب لهما , وسرعان ماأعود إلى هوة مغارة الحوارالتى ليس لها قرار .
وكان علىّ وأنا فى طريقى إلى المطحن أن أمر خلال منطقة مساكن شعبية فقيرة , وهى فى الحقيقة ليست مساكن بالمعنى المعروف ولكنها تعتبر مجرد مأوى لساكنيها , فهى عبارة عن غرف ضيقة متجاورة على إمتداد ممر طويل ينتهى بدورة مياه عامة لكل سكان دورمن أدوارها الخمسة , وكثيرا ماتساءلت كيف يمكن لعائلة ولو حتى مكونة من ثلاثة أفراد أن يقيموا فى غرفة ضيقة كهذه الغرفة عليها أن تتسع لتشمل كل متطلبات حياتهم من معيشة ونوم , فما بالك لو كانت هذه العائلة أكبر ومكونة من أربعة أفراد أو خمسة أو أكثر, ولهذا فليس من الغريب أن تجد مواقد البوتاجاز وبعض أدوات المطبخ بجوار باب كل حجرة على إمتداد الممر, بالإضافة لساكنيها أنفسهم الهاربين من خنقة المكان وضيقه بحثا عن ضوء النهار وحرارة الشمس ونسمات الهواء التى لاتعرف طريقها لتلك الجحور . ويقطن هذه الجحور الضيقة قطاع من البشر المهمشين , كان كل ماأنعمت عليهم به عهود الثورة المتعاقبة هو هذا المأوى , ويتكون معظمهم من بائعين جائلين أو عاملين باليومية أو عاطلين أومسجلى إجرام أو المحظوظين من أرباب معاش الضمان الإجتماعى الذى ليس لهم دخل سواه أو سيدات عاملات فى مهن مختلفة كتمرجية فى مستشفى أو حتى حارسة مرحاض عمومى هو بالقطع أنظف كثيرا من دورة المياه العامة فى مسكنها , وأخريات يفترشن الرصيف لبيع بعض أنواع الخضار , أو شيخ هزمته الأيام يصنع الشاى فى كشك أقامه من كسر أخشاب يعلم الله من أين جمعها .
ونبهتنى عيناى وأنا فى منتصف الشارع إلى رجل متوسط العمر بسيط الحال والثياب يجلس على عتبة مدخل المسكن ويمسك فى يده كوب من الشاى يرتشفه بلذة وترتسم على وجهه علامات رضا وقناعة تجعلك تحس وكأن وجهه كله يبتسم , وتتساءل فى نفسك من أين أتى بكل هذا الكم من الرضا البادى على وجهه , ولأنه ليس من الغريب أن تجد من يجلس خارج هذه المساكن , كان الغريب إذن هو هذا الوجه الراضى القانع المبتسم الذى قل أن ترى مثله فى أيامنا هذه , فما باله هذا الرجل , ألا يعيش بيننا ويشعر بمرارة الحياة بعد أن تآمرعلينا المجلس العسكرى فى بلدنا وعاقبنا بالتحالف مع غربان الظلام لمجرد أننا أردنا أن نخرج من جحور الذل ونتنفس بعض نسيم الحرية , وكنت قد إقتربت من الرجل وعيناى لاتفارق وجهه وهو غير منتبه لى تماما وألقيت عليه السلام فرفع وجهه نحوى سريعا ورد السلام بحرارة ودعانى بترحاب وبمودة خالصة , وشكرته بنفس حرارة ترحابه , ثم واصلت طريقى وقد أدهشنى أن صوته كان أيضا يتحلى بهذا الرضا الذى يكسو وجهه .
تجاوزت الرجل وواصلت سيرى مقتربا من الشارع العمومى الذى فيه مطحن البن وقد نسيت مشاكلى وأحتل وجه هذا الرجل كل تفكيرى وكأن حاله قد أصبح لغزا محيرا لى , فلو عقدت مقارنة بينى وبينه فى أحوالنا المعيشية والإقتصادية فسيكون الفارق كبيرا أو لن تكون هناك مقارنة أصلا إلا أنه يتميزعنى بهذا الوجه الراضى وهذه القناعة المذهلة التى لم تفارقنى حتى وصلت للطريق العام , وإقتربت من مطحن البن ولكن سرعان ماإنقلب وجهى وتلبد بالسخط مصحوبا بلعنات مكتومة على لسانى عندما إكتشفت أنه مغلق وأن اليوم هو يوم أجازته الأسبوعية , كيف لم أتذكر هذا , وكان الضحية طبعا هو عقلى الذى أتهمه دائما بالغباء والنسيان , وقبل أن أستدير راجعا وقد خاب أملى فاجأنى صوت رجل كان واقفا على رصيف المتجر وعلى وجهه إبتسامة وقال يطيب خاطرى وقد أدرك ماكنت فيه
-  معلش , أصله أجازة النهارده .
وإغتصبت إبتسامة وأنا أرد عليه
- عارف , بس أنا نسيت .
وأشار إلى شارع قريب
- على فكره السوبر ماركت إللى فى الشارع ده حتلاقى عنده بن , عارفه ؟
قلت له
 - أيوه , متشكر جدا .
ومتطوعا ومتأهبا قال
- تحب أوريهولك ؟
وسارعت بالرد
- ألف شكر . أنا عارفه . السلام عليك .
وتركت الرجل وواصلت سيرى متسائلا بحيرة , ماذا جرى ؟ هاهو رجل آخر يتودد ويتحلى بالإبتسامة ويعرض مساعدته , ومن قبله هذا الجالس على عتبة المسكن برداء الرضا والقناعة , وشعرت وقتها حقا بالخجل من نفسى ومن رداء القنوط والسخط الذى يحتل وجهى وتيقنت أن العيب فى وليس فى الظروف والمشاكل التى تواجهنى وأتخذ منها ذريعة , فالجميع لديه أضعاف متاعبى ومشاكلى ولم ينسيهم هذا أن يكونوا بشرا يتحلون بصفات البشر الإنسانية ولايلقون بأعباهم على الناس والظروف . هذا المواطن المصرى البسيط الأصيل الذى يتحمل ويواجه كل المحن والمصاعب ويتغلب عليها , وإن لم يستطع , يحتويها حتى يأتى الوقت المناسب ليلفظها , لا أحد يقدر عليه وإن ظن أنه قادر , إلا الله , يؤمنون به ويعتمدون عليه ويتوكلون عليه ويقينهم دائما أنه ناصرهم .
 وأثناء سيرى فى الشارع متجها إلى السوبر ماركت , فجأة سمعت صوتا محذرا
- حاسب ياأستاذ , فيه طوب نازل من العمارة .
ونظرت فى إتجاه الصوت والذى كان لسيدة مسنة تستند على جدار بيت تحذرنى من سقوط أحجار من عمارة مخالفة يتم بنائها فى غفلة من أجهزة دولة نائمة بفعل فاعل . يا الله , حتى أنت , شكرا ياأمى , حقا الدنيا بخير والمصريون بخير وإن بدا غير ذلك , شكرتها بود وإبتسامة وعرضت عليها المعاونة فى حمل الأكياس التى كانت تضعها على الأرض بجوارها فقالت
- كتر خيرك , أنا مستنية إبن بنتى ييجى ياخدهم
وشكرتها ثانية وأخذت طريقى إلى السوبر ماركت ووقفت على الباب مخاطبا البائع بعد التحية , بود , وإبتسامة تعلو وجهى
- فيه بن ؟


ملحوظة
كتبت هذه القصة القصيرة فى شهر مارس عام 2012 وأعيد نشرها اليوم لإحساسى أن الدنيا قد تغيرت للأحسن وأن المواطن المصرى لديه شعور بالأمل والتفاؤل فى المستقبل ونحن نمضى فى خارطة الطريق بعيدا عن التهريج المضلل والمغرض الذى عاصرناه وعايشناه فى أسوأ فترات مرت بها مصر , سواء حكم المجلس العسكرى أو أيام الإخوان البغيضة .

رؤية : أحمد سمك

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Grocery Coupons